فصل: سورة القارعة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن ***


سورة القارعة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 11‏]‏

‏{‏الْقَارِعَةُ ‏(‏1‏)‏ مَا الْقَارِعَةُ ‏(‏2‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ ‏(‏3‏)‏ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ ‏(‏4‏)‏ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ‏(‏5‏)‏ فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ‏(‏6‏)‏ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ‏(‏7‏)‏ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ‏(‏8‏)‏ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ‏(‏9‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ ‏(‏10‏)‏ نَارٌ حَامِيَةٌ ‏(‏11‏)‏‏}‏

وقال الجمهور‏:‏ ‏{‏القارعة‏}‏‏:‏ القيامة نفسها، لأنها تقرع القلوب بهولها‏.‏ وقيل‏:‏ صيحة النفخة في الصور، لأنها تقرع الأسماع وفي ضمن ذلك القلوب‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ هي النار ذات التغيظ والزفير‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏القارعة ما القارعة‏}‏ بالرفع، فما استفهام فيه معنى الاستعظام والتعجب وهو مبتدأ، والقارعة خبره، وتقدم تقرير ذلك في ‏{‏الحاقة ما الحاقة‏}‏ وقيل ذلك في قوله‏:‏ ‏{‏فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة‏}‏ وقال الزجاج‏:‏ هو تحذير، والعرب تحذر وتغري بالرفع كالنصب، قال الشاعر‏:‏

أخو النجدة السلاح السلاح *** وقرأ عيسى‏:‏ بالنصب، وتخريجه على أنه منصوب بإضمار فعل، أي اذكروا القارعة، وما زائدة للتوكيد؛ والقارعة تأكيد لفظي للأولى‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏يوم‏}‏ بالنصب، وهو ظرف، العامل فيه، قال ابن عطية‏:‏ القارعة‏.‏ فإن كان عنى بالقارعة اللفظ الأول، فلا يجوز للفصل بين العامل، وهو في صلة أل، والمعمول بالخبر؛ وكذا لو صار القارعة علماً للقيامة لا يجوز أيضاً، وإن كان عنى اللفظ الثاني أو الثالث، فلا يلتئم معنى الظرف معه‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ الظرف نصب بمضمر دل عليه القارعة، أي تقرع يوم يكون الناس‏.‏ وقال الحوفي‏:‏ تأتي يوم يكون‏.‏ وقيل‏:‏ اذكر يوم‏.‏ وقرأ زيد بن عليّ‏:‏ يوم يكون مرفوع الميم، أي وقتها‏.‏ ‏{‏يوم يكون الناس كالفراش المبثوث‏}‏، قال قتادة‏:‏ هو الطير الذي يتساقط في النار‏.‏ وقال الفراء‏:‏ غوغاء الجراد، وهو صغيره الذي ينتشر في الأرض يركب بعضه بعضاً من الهول‏.‏ وقيل‏:‏ الفراش طير دقيق يقصد النار، ولا يزال يتقحم على المصباح ونحوه حتى يحترق‏.‏ شبهوا في الكثرة والانتشار والضعف والذلة والمجيء والذهاب على غير نظام، والتطاير إلى الداعي من كل جهة حتى تدعوهم إلى ناحية المحشر، كالفراش المتطاير إلى النار‏.‏ قال جرير‏:‏

إن الفرزدق ما علمت وقومه *** مثل الفراش عشين نار المصطلى

وقرن بين الناس والجبال تنبيهاً على تأثير تلك القارعة في الجبال حتى صارت كالعهن المنفوش؛ فكيف يكون حال الإنسان عند سماعها‏؟‏ وتقدم الكلام في الموازين وثقلها وخفتها في الأعراف، وعيشة راضية في الحاقة‏.‏ ‏{‏فأمه هاوية‏}‏‏:‏ الهاوية دركة من دركات النار، وأمه معناه مأواه، كما قيل للأرض أم الناس لأنها تؤويهم، وكما قال عتبة بن أبي سفيان في الحرب‏:‏ فنحن بنوها وهي أمنا‏.‏ وقال قتادة وأبو صالح وغيره‏:‏ فأم رأسه هاوية في قعر جهنم لأنه يطرح فيها منكوساً‏.‏ وقيل‏:‏ هو تفاؤل بشر، وإذا دعوا بالهلكة قالوا هوت أمه، لأنه إذا هوى، أي سقط وهلك فقد هوت أمه ثكلاً وحزناً‏.‏ قال الشاعر‏:‏

هوت أمه ما نبعث الصبح غاديا *** وماذا يرد الليل حين يؤون

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏فأمه‏}‏ بضم الهمزة، وطلحة بكسرها‏.‏ قال ابن خالويه‏:‏ وحكى ابن دريد أنها لغة‏.‏ وأما النحويون فإنهم يقولون‏:‏ لا يجوز كسر الهمزة إلا أن يتقدمها كسرة أو ياء، انتهى‏.‏ ‏{‏وما أدراك‏}‏‏:‏ هي ضمير يعود على هاوية إن كانت كما قيل دركة من دركات النار معروفة بهذا الاسم، وإن كانت غير ذلك مما قيل فهي ضمير الداهية التي دل عليها قوله‏:‏ ‏{‏فأمه هاوية‏}‏، والهاء فيما هيه هاء السكت، وحذفها في الوصل ابن أبي إسحاق والأعمش وحمزة، وأثبتها الجمهور‏:‏ ‏{‏نار‏}‏‏:‏ خبر مبتدأ محذوف، أي هي نار، أعاذنا الله منها بمنه وكرمه‏.‏

سورة التكاثر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 8‏]‏

‏{‏أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ‏(‏1‏)‏ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ‏(‏2‏)‏ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏3‏)‏ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏4‏)‏ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ‏(‏5‏)‏ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ‏(‏6‏)‏ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ‏(‏7‏)‏ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏ألهاكم‏}‏‏:‏ شغلكم فعلى ما روى الكلبي ومقاتل يكون المعنى‏:‏ أنكم تكاثرتم بالأحياء حتى استوعبتم عددهم، صرتم إلى المقابر فتكاثرتم بالأموات‏.‏ عبر عن بلوغهم ذكر الموتى بزيارة المقابر تهكماً بهم، وهذا معنى ينبو عنه لفظ زرتم‏.‏ قيل‏:‏ ‏{‏حتى زرتم‏}‏‏:‏ أي متم وزرتم بأجسادكم مقابرها، أي قطعتم بالتكاثر والمفاخرة بالأموال والأولاد والعدد أعماركم حتى متم‏.‏ وسمع بعض الأعراب ‏{‏حتى زرتم‏}‏ فقال‏:‏ بعث القوم للقيامة، ورب الكعبة فإن الزائر منصرف لا مقيم‏.‏ وعن عمر بن عبد العزيز نحو من قول الأعرابي‏.‏ وقيل‏:‏ هذا تأنيث على الإكثار من زيارة تكثراً بمن سلف وإشادة بذكره‏.‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن زيارة القبور، ثم قال‏:‏ «فزوروها أمر إباحة للاتعاظ بها لا لمعنى المباهاة والتفاخر» قال ابن عطية‏:‏ كما يصنع الناس في ملازمتها وتسليمها بالحجارة والرخام، وتلوينها شرفاً، وبيان النواويس عليه‏.‏ وابن عطية لم ير إلا قبور أهل الأندلس، فكيف لو رأى ما تباهى به أهل مصر في مدافنهم بالقرافة الكبرى، والقرافة الصغرى، وباب النصر وغير ذلك، وما يضيع فيها من الأموال، والتعجب من ذلك، ولرأى ما لم يخطر ببال‏؟‏

وأما التباهي بالزيارة، ففي هؤلاء المنتمين إلى الصوف أقوام ليس لهم شغل إلا زيارة القبور‏.‏ زرت قبر سيدي فلان بكذا، وقبر فلان بكذا، والشيخ فلاناً بكذا، والشيخ فلاناً بكذا؛ فيذكرون أقاليم طافوها على قدم التجريد، وقد حفظوا حكايات عن أصحاب تلك القبور وأولئك المشايخ بحيث لو كتبت لجاءت أسفاراً، وهم مع ذلك لا يعرفون فروض الوضوء ولا سننه، وقد سخر لهم الملوك وعوام الناس في تحسين الظن بهم وبذل أموالهم لهم‏.‏ وأما من شذا منهم لأن يتكلم للعامة فيأتي بعجائب، يقولون هذا فتح هذا من العلم اللدني علم الخضر، حتى أن من ينتمي إلى العلم لما رأى رواج هذه الطائفة سلك مسلكهم ونقل كثيراً من حكاياتهم ومزج ذلك بيسير من العلم طلباً للمال والجاه وتقبيل اليد؛ ونحن نسأل الله عز وجل أن يوفقنا لطاعته‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ألهاكم على الخبر؛ وابن عباس وعائشة ومعاية وأبو عمران الجوني وأبو صالح ومالك بن دينار وأبو الجوزاء وجماعة‏:‏ بالمد على الاستفهام، وقد روي كذلك عن الكلبي ويعقوب، وعن أبي بكر الصديق وابن عباس أيضاً والشعبي وأبي العالية وابن أبي عبلة والكسائي في رواية‏:‏ أألهاكم بهمزتين، ومعنى الاستفهام‏:‏ التوبيخ والتقرير على قبح فعلهم؛ والجمهور‏:‏ على أن التكرير توكيد‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ والتكرير تأكيد للردع والإنذار؛ وثم دلالة على أن الإنذار الثاني أبلغ من الأول وأشد، كما تقول للمنصوح‏:‏ أقول لك ثم أقول لك لا تفعل، والمعنى‏:‏ سوف تعلمون الخطاب فيما أنتم عليه إذا عاينتم ما قدامكم من هول لقاء الله تعالى‏.‏

وقال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه‏:‏ ‏{‏كلا سوف تعلمون‏}‏ في القبور ‏{‏ثم كلا سوف تعلمون‏}‏ في البعث‏:‏ غاير بينهما بحسب التعلق، وتبقى ثم على بابها من المهلة في الزمان‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ الزجر الأول ووعيده للكافرين، والثاني للمؤمنين‏.‏ ‏{‏كلا لو تعلمون‏}‏‏:‏ أي ما بين أيديكم مما تقدمون عليه، ‏{‏علم اليقين‏}‏‏:‏ أي كعلم ما تستيقنونه من الأمور لما ألهاكم التكاثر أو العلم اليقين، فأضاف الموصوف إلى صفته وحذف الجواب لدلالة ما قبله عليه وهو ‏{‏ألهاكم التكاثر‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ اليقين هنا الموت‏.‏ وقال قتادة‏:‏ البعث، لأنه إذا جاء زال الشك‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏لترون الجحيم‏}‏‏:‏ والظاهر أن هذه الرؤية هي رؤية الورود، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن منكم إلا واردها‏}‏ ولا تكون رؤية عند الدخول، فيكون الخطاب للكفار لأنه قال بعد ذلك‏:‏ ‏{‏ثم لتسألن يومئذ عن النعيم‏}‏‏.‏

‏{‏ثم لترونها عين اليقين‏}‏‏:‏ تأكيد للجملة التي قبلها، وزاد التوكيد بقوله‏:‏ ‏{‏عين اليقين‏}‏ نفياً لتوهم المجاز في الرؤية الأولى‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ هو خطاب للمشركين، فالرؤية رؤية دخول‏.‏ وقرأ ابن عامر والكسائي‏:‏ لترون بضم التاء؛ وباقي السبعة‏:‏ بالفتح، وعليّ وابن كثير في رواية، وعاصم في رواية‏:‏ بفتحها في ‏{‏لترون‏}‏، وضمها في ‏{‏لترونها‏}‏، ومجاهد والأشهب وابن أبي عبلة‏:‏ بضمهما‏.‏ وروي عن الحسن وأبي عمرو بخلاف عنهما أنهما همزا الواوين، استثقلوا الضمة على الواو فهمزوا كما همزوا في وقتت، وكان القياس أن لا تهمز، لأنها حركة عارضة لالتقاء الساكنين فلا يعتد بها‏.‏ لكنها لما تمكنت من الكلمة بحيث لا تزول أشبهت الحركة الأصلية فهمزوا، وقد همزوا من الحركة العارضة ما يزول في الوقف نحو استرؤا الصلاة، فهمز هذه أولى‏.‏

‏{‏ثم لتسألن يومئذ عن النعيم‏}‏‏:‏ الظاهر العموم في النعيم، وهو كل ما يتلذذ به من مطعم ومشرب ومفرش ومركب، فالمؤمن يسأل سؤال إكرام وتشريف، والكافر سؤال توبيخ وتقريع‏.‏ وعن ابن مسعود والشعبي وسفيان ومجاهد‏:‏ هو الأمن والصحة‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ البدن والحواس فيم استعملها‏.‏ وعن ابن جبير‏:‏ كل ما يتلذذ به‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «بيت يكنك وخرقة تواريك وكسرة تشد قلبك وما سوى ذلك فهو نعيم»‏.‏

سورة العصر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏وَالْعَصْرِ ‏(‏1‏)‏ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ‏(‏2‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏والعصر‏}‏، قال ابن عباس‏:‏ هو الدهر، يقال فيه عصر وعصر وعصر؛ أقسم به تعالى لما في مروره من أصناف العجائب‏.‏ وقال قتادة‏:‏ العصر‏:‏ العشي، أقسم به كما أقسم بالضحى لما فيهما من دلائل القدرة‏.‏ وقيل‏:‏ العصر‏:‏ اليوم والليلة، ومنه قول حميد بن ثور‏:‏

ولن يلبث العصران يوم وليلة *** إذا طلبا أن يدركا ما تيمما

وقيل‏:‏ العصر بكرة، والعصر عشية، وهما الأبردان، فعلى هذا والقول قبله يكون القسم بواحد منهما غير معين‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ العصر‏:‏ الصلاة الوسطى، أقسم بها‏.‏ وبهذا القول بدأ الزمخشري قال‏:‏ لفضلها بدليل قوله تعالى ‏{‏والصلاة الوسطى‏}‏ صلاة العصر، في مصحف حفصة، وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله»، لأن التنكيف في أدائها أشق لتهافت الناس في تجاراتهم وتحاسبهم آخر النهار واشتغالهم بمعايشهم، انتهى‏.‏ وقرأ سلام‏:‏ والعصر بكسر الصاد، والصبر بكسر الباء‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا لا يجوز إلا في الوقف على نقل الحركة‏.‏ وروي عن أبي عمرو‏:‏ بالصبر بكسر الباء إشماماً، وهذا أيضاً لا يكون إلا في الوقف، انتهى‏.‏ وفي الكامل للهزلي‏:‏ والعصر، والصبر، والفجر، والوتر، بكسر ما قبل الساكن في هذه كلها هارون وابن موسى عن أبي عمرو؛ والباقون‏:‏ بالإسكان كالجماعة، انتهى‏.‏ وقال ابن خالويه‏:‏ ‏{‏وتواصوا بالصبر‏}‏، بنقل الحركة عن أبي عمرو‏.‏ وقال صاحب اللوامح عيسى‏:‏ البصرة بالصبر، بنقل حركة الهاء إلى الياء لئلا يحتاج أن يأتي ببعض الحركة في الوقف، ولا إلى أن يسكن فيجمع بين ساكنين، وذلك لغة شائعة، وليست شاذة بل مستفيضة، وذلك دلالة على الإعراب، وانفصال عن التقاء الساكنين، ومادته حق الموقوف عليه من السكون، انتهى‏.‏ وقد أنشدنا في الدلالة على هذا في شرح التسهيل عدّة أبيات، كقول الراجز‏:‏

أنا جرير كنيتي أبو عمر *** أضرب بالسيف وسعد في العصر

يريد‏:‏ أبو عمر‏.‏ والعصر والإنسان اسم جنس يعم، ولذلك صح الاستثناء منه، والخسر‏:‏ الخسران، كالكفر والكفران، وأي خسران أعظم ممن خسر الدنيا والآخرة‏؟‏ وقرأ ابن هرمز وزيد بن عليّ وهارون عن أبي بكر عن عاصم‏:‏ خسر بضم السين، والجمهور بالسكون‏.‏ ومن باع آخرته بدنياه فهو في غاية الخسران، بخلاف المؤمن، فإنه اشترى الآخرة بالدنيا، فربح وسعد‏.‏ ‏{‏وتواصوا بالحق‏}‏‏:‏ أي بالأمر الثابت من الذين عملوا به وتواصوا به، ‏{‏وتواصوا بالصبر‏}‏ في طاعة الله تعالى، وعن المعاصي‏.‏

سورة الهمزة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 9‏]‏

‏{‏وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ‏(‏1‏)‏ الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ ‏(‏2‏)‏ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ ‏(‏3‏)‏ كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ ‏(‏4‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ ‏(‏5‏)‏ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ ‏(‏6‏)‏ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ ‏(‏7‏)‏ إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ ‏(‏8‏)‏ فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ ‏(‏9‏)‏‏}‏

وتقدم الكلام في الهمزة في سورة ن، وفي اللمز في سورة براءة، وفعله من أبنية المبالغة، كنومة وعيبة وسحرة وضحكة، وقال زياد الأعجم‏:‏

تدلى بودّي إذا لاقيتني كذباً *** وإن أغيب فأنت الهامز اللمزه

وقرأ الجمهور‏:‏ بفتح الميم فيهما؛ والباقون‏:‏ بسكونها، وهو المسخرة الذي يأتي بالأضاحيك منه، ويشتم ويهمز ويلمز‏.‏ ‏{‏الذي‏}‏‏:‏ بدل، أو نصب على الذم‏.‏ وقرأ الحسن وأبو جعفر وابن عامر والأخوان‏:‏ جمع مشدد الميم؛ وباقي السبعة‏:‏ بالتخفيف، والجمهور‏:‏ ‏{‏وعدده‏}‏ بشد الدال الأولى‏:‏ أي أحصاه وحافظ عليه‏.‏ وقيل‏:‏ جعله عدة لطوارق الدهر؛ والحسن والكلبي‏:‏ بتخفيفهما، أي جمع المال وضبط عدده‏.‏ وقيل‏:‏ وعدداً من عشيرته‏.‏ وقيل‏:‏ وعدده على ترك الإدغام، كقوله‏:‏

إني أجود لأقوام وإن ضننوا *** ‏{‏أخلده‏}‏‏:‏ أي أبقاه حياً، إذ به قوام حياته وحفظه مدّة عمره‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ أي طوّل المال أمله ومناه الأماني البعيدة، حتى أصبح لفرط غفلته وطول أمله يحسب أن المال تركه خالداً في الدنيا لا يموت‏.‏ قيل‏:‏ وكان للأخنس أربعة آلاف دينار‏.‏ وقيل‏:‏ عشرة آلاف دينار‏.‏ ‏{‏كلا‏}‏ ردع له عن حسبانه‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏لينبذن‏}‏ فيه ضمير الواحد؛ وعليّ والحسن‏:‏ بخلاف عنه؛ وابن محيصن وحميد وهارون عن أبي عمرو‏:‏ ولينبذان، بألف ضمير اثنين‏:‏ الهمزة وماله‏.‏ وعن الحسن أيضاً‏:‏ لينبذن بضم الذال، أي هو وأنصاره‏.‏ وعن أبي عمرو‏:‏ لينبذنه‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏في الحطمة وما أدراك ما الحطمة‏}‏؛ وزيد بن عليّ‏:‏ في الحاطمة وما أدراك ما الحاطمة، وهي النار التي من شأنها أن تحطم كل ما يلقى فيها‏.‏ قال الضحاك‏:‏ الحطمة‏:‏ الدرك الرابع من النار‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ الطبقة السادسة من جهنم؛ وحكى عنه القشيري أنها الدركة الثانية؛ وعنه أيضاً‏:‏ الباب الثاني‏.‏ وقال الواحدي‏:‏ باب من أبواب جهنم، انتهى‏.‏

و ‏{‏نار الله‏}‏‏:‏ أي هي، أي الحطمة‏.‏ ‏{‏التي تطلع على الأفئدة‏}‏‏:‏ ذكرت الأفئدة لأنها ألطف ما في البدن وأشدّه تألماً بأدنى شيء من الأذى؛ واطلاع النار عليها هو أنها تعلوها وتشتمل عليها، وهي تعلو الكفار في جميع أبدانهم، لكن نبه على الأشرف لأنها مقر العقائد‏.‏ وقرأ الأخوان وأبو بكر‏:‏ في عمد بضمتين جمع عمود؛ وهارون عن أبي عمرو‏:‏ بضم العين وسكون الميم؛ وباقي السبعة‏:‏ بفتحها، وهو اسم جمع، الواحد عمود‏.‏ وقال الفرّاء‏:‏ جمع عمود، كما قالوا‏:‏ أديم وأدم‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ جمع عماد‏.‏ قال ابن زيد‏:‏ في عمد حديد مغلولين بها‏.‏ وقال أبو صالح‏:‏ هذه النار هي قبورهم، والظاهر أنها نار الآخرة، إذ يئسوا من الخروج بإطباق الأبواب عليهم وتمدد العمد، كل ذلك إيذاناً بالخلود إلى غير نهاية‏.‏ وقال قتادة‏:‏ كنا نحدّث أنها عمد يعذبون بها في النار‏.‏ وقال أبو صالح‏:‏ هي القيود، والله تعالى أعلم‏.‏

سورة الفيل

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ‏(‏1‏)‏ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ ‏(‏2‏)‏ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ ‏(‏3‏)‏ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ ‏(‏4‏)‏ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ ‏(‏5‏)‏‏}‏

ومعنى ‏{‏ألم تر‏}‏‏:‏ ألم تعلم قدره على وجود علمه بذلك‏؟‏ إذ هو أمر منقول نقل التواتر، فكأنه قيل‏:‏ قد علمت فعل الله ربك بهؤلاء الذين قصدوا حرمه، ضلل كيدهم وأهلكهم بأضعف جنوده، وهي الطير التي ليست من عادتها أنها تقتل‏.‏

وقصة الفيل ذكرها أهل السير والتفسير مطولة ومختصرة، وتطالع في كتبهم‏.‏ وأصحاب الفيل‏:‏ أبرهة بن الصباح الحبشي ومن كان معه من جنوده‏.‏ والظاهر أنه فيل واحد، وهو قول الأكثرين‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ ثمانية فيلة، وقيل‏:‏ اثنا عشر فيلاً، وقيل‏:‏ ألف فيل، وهذه أقوال متكاذبة‏.‏ وكان العسكر ستين ألفاً، لم يرجع أحد منهم إلا أميرهم في شرذمة قليلة، فلما أخبروا بما رأوا هلكوا‏.‏ وكان الفيل يوجهونه نحو مكة لما كان قريباً منها فيبرك، ويوجهونه نحو اليمن والشام فيسرع‏.‏ وقال الواقدي‏:‏ أبرهة جد النجاشي الذي كان في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقرأ السلمي‏:‏ ألم تر بسكون، وهو جزم بعد جزم‏.‏ ونقل عن صاحب اللوامح ترأ بهمزة مفتوحة مع سكون الراء على الأصل، وهي لغة لتيم، وتر معلقة، والجملة التي فيها الاستفهام في موضع نصب به؛ وكيف معمول لفعل‏.‏ وفي خطابه تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ ‏{‏فعل ربك‏}‏ تشريف له صلى الله عليه وسلم وإشادة من ذكره، كأنه قال‏:‏ ربك معبودك هو الذي فعل ذلك لا أصنام قريش أساف ونائلة وغيرهما‏.‏

‏{‏ألم يجعل كيدهم في تضليل‏}‏، يقال‏:‏ ضلل كيدهم، إذا جعله ضالاً ضائعاً‏.‏ وقيل لامرئ القيس الضليل، لأنه ضلل ملك أبيه، أي ضيعه‏.‏ وتضييع كيدهم هو بأن أحرق الله تعالى البيت الذي بنوه قاصدين أن يرجع حج العرب إليه، وبأن أهلكهم لما قصدوا هدم بيت الله الكعبة بأن أرسل عليهم طيراً جاءت من جهة البحر، ليست نجدية ولا تهامية ولا حجازية سوداء‏.‏ وقيل‏:‏ خضراء على قدر الخطاف‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏ترميهم‏}‏ بالتاء، والطير اسم جمع بهذه القراءة، وقوله‏:‏

كالطير ينجو من الشؤبوب ذي البرد *** وتذكر كقراءة أبي حنيفة وابن يعمر وعيسى وطلحة في رواية عنه‏:‏ يرميهم‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير عائد على ‏{‏ربك‏}‏‏.‏ ‏{‏بحجارة‏}‏؛ كان كل طائر في منقاره حجر، وفي رجليه حجران، كل حجر فوق حبة العدس ودون حبة الحمص، مكتوب في كل حجر اسم مرميه، ينزل على رأسه ويخرج من دبره‏.‏ ومرض أبرهة، فتقطع أنملة أنملة، وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه، وانفلت أبو مكسوم وزيره، وطائره يتبعه حتى وصل إلى النجاشي وأخبره بما جرى للقوم، فرماه الطائر بحجره فمات بين يدي الملك‏.‏ وتقدم شرح سجيل في سورة هود، والعصف في سورة الرحمن‏.‏ شبهوا بالعصف ورق الزرع الذي أكل، أي وقع فيه الأكال، وهو أن يأكله الدود والتبن الذي أكلته الدواب وراثته‏.‏

وجاء على آداب القرآن نحو قوله‏:‏ ‏{‏كانا يأكلان الطعام‏}‏ أو الذي أكل حبه فبقي فارغاً، فنسبه أنه أكل مجاز، إذ المأكول حبه لا هو‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏مأكول‏}‏‏:‏ بسكون الهمزة وهو الأصل، لأن صيغة مفعول من فعل‏.‏ وقرأ أبو الدرداء، فيما نقل ابن خالويه‏:‏ بفتح الهمزة اتباعاً لحركة الميم وهو شاذ، وهذا كما اتبعوه في قولهم‏:‏ محموم بفتح الحاء لحركة الميم‏.‏ قال ابن إسحاق‏:‏ لما رد الله الحبشة عن مكة، عظمت العرب قريشاً وقالوا‏:‏ أهل الله قاتل عنهم وكفاهم مؤونة عدوّهم، فكان ذلك نعمة من الله تعالى عليهم‏.‏ وقيل‏:‏ هو إجابة لدعاء الخليل عليه الصلاة والسلام‏.‏

سورة قريش

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ ‏(‏1‏)‏ إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ ‏(‏2‏)‏ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ ‏(‏3‏)‏ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ‏(‏4‏)‏‏}‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏لإيلاف قريش‏}‏، مصدر آلف رباعياً؛ وابن عامر‏:‏ لالاف على وزن فعال، مصدر ألف ثلاثياً‏.‏ يقال‏:‏ ألف الرجل الأمر إلفاً وإلافاً، وآلفه غيره إياه إيلافاً، وقد يأتي ألف متعدياً لواحد كإلف، قال الشاعر‏:‏

من المؤلفات الرمل أدماء حرة *** شعاع الضحى في متنها يتوضح

ولم يختلف القراء السبعة في قراءة إيلافهم مصدراً للرباعي‏.‏ وروي عن أبي بكر، عن عاصم أنه قرأ بهمزتين، فيهما الثانية ساكنة، وهذا شاذ، وإن كان الأصل أبدلوا الهمزة التي هي فاء الكلمة لثقل اجتماع همزتين، ولم يبدلوا في نحو يؤلف على جهة اللزوم لزوال الاستثقال بحذف الهمزة فيه، وهذا المروي عن عاصم هو من طريق الشمني عن الأعشى عن أبي بكر‏.‏ وروى محمد بن داود النقار عن عاصم‏:‏ إإيلافهم بهمزتين مكسورتين بعدهما ياء ساكنة ناشئة عن حركة الهمزة الثانية لما أشبع كسرتها، والصحيح رجوع عاصم عن الهمزة الثانية، وأنه قرأ كالجماعة‏.‏ وقرأ أبو جعفر فيما حكى الزمخشري‏:‏ لإلف قريش؛ وقرأ فيما حكى ابن عطية الفهم‏.‏ قال الشاعر‏:‏

زعمتم أن إخوتكم قريشاً *** لهم إلف وليس لكم إلاف

جمع بين مصدري ألف الثلاثي‏.‏ وعن أبي جعفر وابن عامر‏:‏ إلا فهم على وزن فعال‏.‏ وعن أبي جعفر وابن كثير‏:‏ إلفهم على وزن فعل، وبذلك قرأ عكرمة‏.‏ وعن أبي جعفر أيضاً‏:‏ ليلاف بياء ساكنة بعد اللام اتبع، لما أبدل الثانية ياء حذف الأولى حذفاً على غير قياس‏.‏ وعن عكرمة‏:‏ ليألف قريش؛ وعنه أيضاً‏:‏ لتألف قريش على الأمر، وعنه وعن هلال بن فتيان‏:‏ بفتح لام الأمر، وأجمعوا هنا على صرف قريش، راعوا فيه معنى الحي، ويجوز منع صرفه ملحوظاً فيه معنى القبيلة للتأنيث والعلمية‏.‏ قال الشاعر‏:‏

وكفى قريش المعضلات وسادها *** جعله اسماً للقبيلة سيبويه في نحو معد وقريش وثقيف، وكينونة هذه للإحياء أكثر، وإن جعلتها اسماً للقبائل فجائز حسن‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏رحلة‏}‏ بكسر الراء؛ وأبو السمال‏:‏ بضمها، فبالكسر مصدر، وبالضم الجهة التي يرحل إليها، والجمهور على أنهما رحلتان‏.‏ فقيل‏:‏ إلى الشام في التجارة ونيل الأرباح، ومنه قول الشاعر‏:‏

سفرين بينهما له ولغيره *** سفر الشتاء ورحلة الأصياف

وقال ابن عباس‏:‏ رحلة إلى اليمن، ورحلة إلى بصرى‏.‏ وقال‏:‏ يرحلون في الصيف إلى الطائف حيث الماء والظل، ويرحلون في الشتاء إلى مكة للتجارة وسائر أغراضهم‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ وأراد رحلتي الشتاء والصيف، فأفرد لأمن الإلباس، كقوله‏:‏

كلوا في بعض بطنكم تعفوا *** فإن زمانكم زمن خميص

انتهى، وهذا عند سيبويه لا يجوز إلا في الضرورة، ومثله‏:‏

حمامة بطن الواديين ترنمي *** يريد‏:‏ بطني الواديين، أنشده أصحابنا على الضرورة‏.‏ وقال النقاش‏:‏ كانت لهم أربع رحل‏.‏

قال ابن عطية‏:‏ وهذا قول مردود‏.‏ انتهى، ولا ينبغي أن يرد، فإن أصحاب الإيلاف كانوا أربعة إخوة وهم‏:‏ بنو عبد مناف هاشم، كان يؤلف ملك الشام، أخذ منه خيلاً، فأمن به في تجارته إلى الشام، وعبد شمس يؤلف إلى الحبشة؛ والمطلب إلى اليمن؛ ونوفل إلى فارس‏.‏ فكان هؤلاء يسمون المجبرين، فتختلف تجر قريش إلى الأمصار بحبل هؤلاء الإخوة، فلا يتعرض لهم‏.‏ قال الأزهري‏:‏ الإيلاف شبه الإجارة بالخفارة، فإذا كان كذلك جاز أن يكون لهم رحل أربع، باعتبار هذه الأماكن التي كانت التجار في خفارة هؤلاء الأربعة فيها، وفيهم يقول الشاعر يمدحهم‏:‏

يا أيها الرجل المحول رحله *** هلا نزلت بآل عبد مناف

الآخذون العهد من آفاقها *** والراحلون لرحلة الإيلاف

والرائشون وليس يوجد رائش *** والقائلون هلمّ للأضياف

والخالطون غنيهم لفقيرهم *** حتى يصير فقيرهم كالكاف

فتكون رحلة هنا اسم جنس يصلح للواحد ولأكثر، وإيلافهم بدل من ‏{‏لإيلاف قريش‏}‏، أطلق المبدل منه وقيد البدل بالمفعول به، وهو رحلة، أي لأن ألفوا رحلة تفخيماً لأمر الإيلاف وتذكيراً بعظيم النعمة فيه‏.‏ ‏{‏هذا البيت‏}‏‏:‏ هو الكعبة، وتمكن هنا هذا اللفظ لتقدم حمايته في السورة التي قبلها، ومن هنا للتعليل، أي لأجل الجوع‏.‏ كانوا قطاناً ببلد غير ذي زرع عرضة للجوع والخوف لولا لطف الله تعالى بهم، وذلك بدعوة إبراهيم عليه السلام‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏يجبى إليه ثمرات كل شيء‏}‏ ‏{‏وآمنهم من خوف‏}‏‏:‏ فضلهم على العرب بكونهم يأمنون حيث ما حلوا، فيقال‏:‏ هؤلاء قطان بيت الله، فلا يتعرض إليهم أحد، وغيرهم خائفون‏.‏ وقال ابن عباس والضحاك‏:‏ ‏{‏ىمنهم من خوف‏}‏‏:‏ معناه من الجذام، فلا ترى بمكة مجذوماً‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ والتنكير في جوع وخوف لشدتهما، يعني أطعمهم بالرحلتين من جوع شديد كانوا فيه قبلهما، وآمنهم من خوف عظيم، وهو خوف أصحاب الفيل، أو خوف التخطف في بلدهم ومسايرهم‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏من خوف‏}‏، بإظهار النون عند الخاء، والمسيبي عن نافع‏:‏ بإخفائها، وكذلك مع العين، نحو من على، وهي لغة حكاها سيبويه‏.‏ وقال ابن الأسلت يخاطب قريشاً‏:‏

فقوموا فصلوا ربكم وتمسحوا *** بأركان هذا البيت بين الأخاشب

فعندكم منه بلاء ومصدق *** غداة أبي مكسوم هادي الكتائب

كثيبة بالسهل تمشي ورحلة *** على العادقات في رؤوس المناقب

فلما أتاكم نصر ذي العرش ردهم *** جنود المليك بين ساق وحاجب

فولوا سراعاً هاربين ولم يؤب *** إلى أهله ملجيش غير عصائب

سورة الماعون

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 7‏]‏

‏{‏أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ‏(‏1‏)‏ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ‏(‏2‏)‏ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ‏(‏3‏)‏ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ‏(‏4‏)‏ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ‏(‏5‏)‏ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ ‏(‏6‏)‏ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

الظاهر أن ‏{‏أرأيت‏}‏ هي التي بمعنى أخبرني، فتتعدى لاثنين، أحدهما الذي، والآخر محذوف، فقدره الحوفي‏:‏ أليس مستحقاً عذاب الله، وقدره الزمخشري‏:‏ من هو، ويدل على أنها بمعنى أخبرني‏.‏ قراءة عبد الله أرأيتك بكاف الخطاب، لأن كاف الخطاب لا تلحق البصرية‏.‏ قال الحوفي‏:‏ ويجوز أن تكون من رؤية البصر، فلا يكون في الكلام حذف، وهمزة الاستفهام تدل على التقرير والتفهيم ليتذكر السامع من يعرفه بهذه الصفة‏.‏ والدين‏:‏ الجزاء بالثواب والعقاب‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ والمعنى هل عرفت الذي يكذب بالجزاء‏؟‏ هو الذي ‏{‏يدع اليتيم‏}‏‏:‏ أي يدفعه دفعاً عنيفاً بجفوة أو أذى، ‏{‏ولا يحض‏}‏‏:‏ أي ولا يبعث أهله على بذل الطعام للمسكين‏.‏ جعل علم التكذيب بالجزاء، منع المعروف والإقدام على إيذاء الضعيف، انتهى‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏يدع‏}‏ بضم الدال وشد العين؛ وعليّ والحسن وأبو رجاء واليماني‏:‏ بفتح الدال وخف العين، أي يتركه بمعنى لا يحسن إليه ويجفوه‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏ولا يحض‏}‏ مضارع حض؛ وزيد بن علي‏:‏ يحاض مضارع حاضضت‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏بالدين‏}‏‏:‏ بحكم الله‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ بالحساب، وقيل‏:‏ بالجزاء، وقيل‏:‏ بالقرآن‏.‏ وقال إبراهيم ابن عرفة‏:‏ ‏{‏يدع اليتيم‏}‏‏:‏ يدفعه عن حقه‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ يدفعه عن حقه ولا يطعمه، وفي قوله‏:‏ ‏{‏ولا يحض‏}‏ إشارة إلى أنه هو لا يطعم إذا قدره، وهذا من باب الأولى، لأنه إذا لم يحض غيره بخلاً، فلان يترك هو ذلك فعلاً أولى وأحرى، وفي إضافة طعام إلى المسكين دليل على أنه يستحقه‏.‏

ولما ذكر أولاً عمود الكفر، وهو التكذيب بالدين، ذكر ما يترتب عليه مما يتعلق بالخالق، وهو عبادته بالصلاة، فقال‏:‏ ‏{‏فويل للمصلين‏}‏‏.‏ والظاهر أن المصلين هم غير المذكور‏.‏ وقيل‏:‏ هو داع اليتيم غير الحاض، وأن كلاً من الأوصاف الذميمة ناشئ عن التكذيب بالدين، فالمصلون هنا، والله أعلم، هم المنافقون، ثبت لهم الصلاة، وهي الهيئات التي يفعلونها‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏الذين هم عن صلاتهم ساهون‏}‏، نظراً إلى أنهم لا يوقعونها، كما يوقعها المسلم من اعتقاد وجوبها والتقرب بها إلى الله تعالى‏.‏ وفي الحديث عن صلاتهم ساهون‏:‏ «يؤخرونها عن وقتها تهاوناً بها» قال مجاهد‏:‏ تأخير ترك وإهمال‏.‏ وقال إبراهيم‏:‏ هو الذي إذا سجد قال برأسه هكذا ملتفتاً‏.‏ وقال قتادة‏:‏ هو الترك لها، أو هم الغافلون الذين لا يبالي أحدهم أصلى أم لم يصل‏.‏ وقال قطرب‏:‏ هو الذي لا يقر ولا يذكر الله تعالى‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ المنافقون يتركون الصلاة سراً ويفعلونها علانية، ‏{‏وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى‏}‏ ويدل على أنها في المنافقين قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين هم يراءون‏}‏، وقاله ابن وهب عن مالك‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ولو قال في صلاتهم لكانت في المؤمنين‏.‏ وقال عطاء‏:‏ الحمد لله الذي قال عن صلاتهم ولم يقل في صلاتهم‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ بعد أن قدم فيما نقلناه من كلامه ما يدل على أن ‏{‏فذلك الذي يدع‏}‏ في موضع رفع، قال‏:‏ وطريقة أخرى أن يكون ‏{‏فذلك‏}‏ عطفاً على ‏{‏الذي يكذب‏}‏، إما عطف ذات على ذات، أو عطف صفة على صفة، ويكون جواب ‏{‏أرأيت‏}‏ محذوفاً لدلالة ما بعده عليه، كأن قال‏:‏ أخبرني وما تقول فيمن يكذب بالجزاء، وفيمن يؤذي اليتيم ولا يطعم المسكين، أنعم ما يصنع‏؟‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏فويل للمصلين‏}‏‏:‏ أي إذا علم أنه مسيء، ‏{‏فويل للمصلين‏}‏ على معنى‏:‏ فويل لهم، إلا أنه وضع صفتهم موضع ضميرهم لأنهم كانوا مع التكذيب، وما أضيف إليهم ساهين عن الصلاة مرائين غير مزكين أموالهم‏.‏ فإن قلت‏:‏ كيف جعلت المصلين قائماً مقام ضمير ‏{‏الذي يكذب‏}‏، وهو واحد‏؟‏ قلت‏:‏ معناه الجمع، لأن المراد به الجنس، انتهى‏.‏ فجعل فذلك في موضع نصب عطفاً على المفعول، وهو تركيب غريب، كقولك‏:‏ أكرمت الذي يزورنا فذلك الذي يحسن إلينا، فالمتبادر إلى الذهن أن فذلك مرفوع بالابتداء، وعلى تقدير النصب يكون التقدير‏:‏ أكرمت الذي يزورنا فأكرمت ذلك الذي يحسن إلينا‏.‏ فاسم الإشارة في هذا التقدير غير متمكن تمكن ما هو فصيح، إذ لا حاجة إلى أن يشار إلى الذي يزورنا، بل الفصيح أكرمت الذي يزورنا فالذي يحسن إلينا، أو أكرمت الذي يزورنا فيحسن إلينا‏.‏ وأما قوله‏:‏ إما عطف ذات على ذات فلا يصح، لأن فذلك إشارة إلى الذي يكذب، فليسا بذاتين، لأن المشار إليه بقوله‏:‏ ‏{‏فذلك‏}‏ هو واحد‏.‏ وأما قوله‏:‏ ويكون جواب ‏{‏أرأيت‏}‏ محذوفاً، فلا يسمى جواباً، بل هو في موضع المفعول الثاني لأرأيت‏.‏ وأما قوله‏:‏ أنعم ما يصنع، فهمزة الاستفهام لا نعلم دخولها على نعم ولا بئس، لأنهما إنشاء، والاستفهام لا يدخل إلى على الخبر‏.‏ وأما وضعه المصلين موضع الضمير، وأن المصلين جمع، لأن ضمير الذي يكذب معناه الجمع، فتكلف واضح ولا ينبغي أن يحمل القرآن إلا على ما اقتضاه ظاهر التركيب، وهكذا عادة هذا الرجل يتكلف أشياء في فهم القرآن ليست بواضحة‏.‏ وتقدّم الكلام في الرياء في سورة البقرة‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ يراءون مضارع راأى، على وزن فاعل؛ وابن أبي إسحاق والأشهب‏:‏ مهموزة مقصورة مشدّدة الهمزة؛ وعن ابن أبي إسحاق‏:‏ بغير شد في الهمزة‏.‏ فتوجيه الأولى إلى أنه ضعف الهمزة تعدية، كما عدوا بالهمزة فقالوا في رأى‏:‏ أرى، فقالوا‏:‏ راأى، فجاء المضارع بأرى كيصلى، وجاء الجمع يروّون كيصلون، وتوجيه الثانية أن استثقل التضعيف في الهمزة فخففها، أو حذف الألف من يراءون حذفاً لا لسبب‏.‏ ‏{‏ويمنعون الماعون‏}‏، قال ابن المسيب وابن شهاب‏:‏ الماعون، بلغة قريش‏:‏ المال‏.‏ وقال الفرّاء عن بعض العرب‏:‏ الماعون‏:‏ الماء‏.‏ وقال ابن مسعود وابن عباس وابن الحنفية والحسن والضحاك وابن زيد‏:‏ ما يتعاطاه الناس بينهم، كالفأس والدلو والآنية‏.‏

وفي الحديث‏:‏ «سئل صلى الله عليه وسلم عن الشيء الذي لا يحل منعه فقال‏:‏ الماء والملح والنار» وفي بعض الطرق‏:‏ الإبرة والخمير‏.‏ وقال عليّ وابن عمر وابن عباس أيضاً‏:‏ الماعون‏:‏ الزكاة، ومنه قول الراعي‏:‏

أخليفة الرحمن إنا معشر *** حنفاء نسجد بكرة وأصيلا

عرب نرى لله من أموالنا *** حق الزكاة منزلاً تنزيلا

قوم على الإسلام لما يمنعوا *** ما عونهم ويضيعوا التهليلا

يعني بالماعون‏:‏ الزكاة، وهذا القول يناسبه ما ذكره قطرب من أن أصله من المعن، وهو الشيء القليل، فسميت الزكاة ماعوناً لأنها قليل من كثير، وكذلك الصدقة غيرها‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ هو العارية‏.‏ وقال محمد بن كعب والكلبي‏:‏ هو المعروف كله‏.‏ وقال عبد الله بن عمر‏:‏ منع الحق‏.‏ وقيل‏:‏ الماء والكلأ‏.‏

سورة الكوثر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ‏(‏1‏)‏ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ‏(‏2‏)‏ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ‏(‏3‏)‏‏}‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏أعطيناك‏}‏ بالعين؛ والحسن وطلحة وابن محيصن والزعفراني‏:‏ أنطيناك بالنون، وهي قراءة مروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال التبريزي‏:‏ هي لغة للعرب العاربة من أولي قريش‏.‏ ومن كلامه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اليد العلياء المنطية واليد السفلى المنطاة» ومن كلامه أيضاً، عليه الصلاة والسلام‏:‏ «وأنطوا النيحة» وقال الأعشى‏:‏

جيادك خير جياد الملوك *** تصان الحلال وتنطى السعيرا

قال أبو الفضل الرازي وأبو زكريا التبرزي‏:‏ أبدل من العين نوناً؛ فإن عنيا النون في هذه اللغة مكان العين في غيرها فحسن، وإن عنيا البدل الصناعي فليس كذلك، بل كل واحد من اللغتين أصل بنفسها لوجود تمام التصرّف من كل واحدة، فلا يقول الأصل العين، ثم أبدلت النون منها‏.‏

وذكر في التحرير‏:‏ في الكوثر ستة وعشرين قولاً، والصحيح هو ما فسره به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ «هو نهر في الجنة، حافتاه من ذهب، ومجراه على الدر والياقوت، تربته أطيب من المسك، وماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج» قال الترمذي‏:‏ هذا حديث حسن صحيح‏.‏ وفي صحيح مسلم، واقتطعنا منه، قال‏:‏ «أتدرون ما الكوثر‏؟‏ قلنا‏:‏ الله ورسوله أعلم‏.‏ قال‏:‏ نهر وعدنيه ربي عليه خير كثير هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد النجوم» انتهى‏.‏ قال ذلك عليه الصلاة والسلام عندما نزلت هذه السورة وقرأها‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ الكوثر‏:‏ الخير الكثير‏.‏ وقيل لابن جبير‏:‏ إن ناساً يقولون‏:‏ هو نهر في الجنة، فقال‏:‏ هو من الخير الكثير‏.‏ وقال الحسن‏:‏ الكوثر‏:‏ القرآن‏.‏ وقال أبو بكر بن عباس ويمان بن وثاب‏:‏ كثرة الأصحاب والأتباع‏.‏ وقال هلال بن يساف‏:‏ هو التوحيد‏.‏ وقال جعفر الصادق‏:‏ نور قلبه دله على الله تعالى وقطعه عما سواه‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ النبوّة‏.‏ وقال الحسن بن الفضل‏:‏ تيسير القرآن وتخفيف الشرائع‏.‏ وقال ابن كيسان‏:‏ الإيثار‏.‏ وينبغي حمل هذه الأقوال على التمثيل، لا أن الكوثر منحصر في واحد منها‏.‏ والكوثر فوعل من الكثرة، وهو المفرط الكثرة‏.‏ قيل لأعرابية رجع ابنها من السفر‏:‏ بم آب ابنك‏؟‏ قالت‏:‏ آب بكوثر‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

وأنت كثير يا ابن مروان طيب *** وكان أبوك ابن العقائل كوثرا

‏{‏فصل لربك وانحر‏}‏‏:‏ الظاهر أن فصل أمر بالصلاة يدخل فيها المكتوبات والنوافل‏.‏ والنحر‏:‏ نحر الهدى والنسك والضحايا، قاله الجمهور؛ ولم يكن في ذلك الوقت جهاد فأمر بهذين‏.‏ قال أنس‏:‏ كان ينحر يوم الأضحى قبل الصلاة، فأمر أن يصلي وينحر، وقاله قتادة‏.‏ وقال ابن جبير‏:‏ نزلت وقت صلح الحديبية‏.‏ قيل له‏:‏ صل وانحر الهدى، فعلى هذا الآية من المدني‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏لربك‏}‏، تنذير بالكفار حيث كانت صلاتهم مكاء وتصدية، ونحرهم للأصنام‏.‏

وعن علي، رضي الله تعالىعنه‏:‏ صل لربك وضع يمينك على شمالك عند نحرك في الصلاة‏.‏ وقيل‏:‏ ارفع يديك في استفتاح صلاتك عند نحرك‏.‏ وعن عطية وعكرمة‏:‏ هي صلاة الفجر بجمع، والنحر بمنى‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ استو بين السجدتين جالساً حتى يبدو نحرك‏.‏ وقال أبو الأحوص‏:‏ استقبل القبلة بنحرك‏.‏

‏{‏إن شانئك‏}‏‏:‏ أي مبغضك، تقدم أنه العاصي بن وائل‏.‏ وقيل‏:‏ أبو جهل‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ لما مات إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج أبو جهل إلى أصحابه فقال‏:‏ بتر محمد، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏إن شانئك هو الأبتر‏}‏‏.‏ وقال شمر بن عطية‏:‏ هو عقبة بن أبي معيط‏.‏ وقال قتادة‏:‏ الأبتر هنا يراد به الحقير الذليل‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏شانئك‏}‏ بالألف؛ وابن عباس‏:‏ شينك بغير ألف‏.‏ فقيل‏:‏ مقصور من شاني، كما قالوا‏:‏ برر وبر في بارر وبار‏.‏ ويجوز أن يكون بناء على فعل، وهو مضاف للمفعول إن كان بمعنى الحال أو الاستقبال؛ وإن كان بمعنى الماضي فتكون إضافته لا من نصب على مذهب البصريين‏.‏ وقد قالوا‏:‏ حذر أموراً ومزقون عرضي، فلا يستوحش من كونه مضافاً للمفعول، وهو مبتدأ، والأحسن الأعرف في المعنى أن يكون فصلاً، أي هو المنفرد بالبتر المخصوص به، لا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فجميع المؤمنين أولاده، وذكره مرفوع على المنائر والمنابر، ومسرود على لسان كل عالم وذاكر إلى آخر الدهر‏.‏ يبدأ بذكر الله تعالى ويثني بذكره صلى الله عليه وسلم، وله في الآخرة ما لا يدخل تحت الوصف صلى الله عليه وسلم وعلى آله وشرف وكرم‏.‏

سورة الكافرون

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 6‏]‏

‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ‏(‏1‏)‏ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ‏(‏2‏)‏ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ‏(‏3‏)‏ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ ‏(‏4‏)‏ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ‏(‏5‏)‏ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ‏(‏6‏)‏‏}‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ دليل على أنه مأمور بذلك من عند الله، وخطابه لهم بيا أيها الكافرون في ناديهم، ومكان بسطة أيديهم مع ما في الوصف من الأرذال بهم دليل على أنه محروس من عند الله تعالى لا يبالي بهم‏.‏ والكافرون ناس مخصوصون، وهم الذين قالوا له تلك المقالة‏:‏ الوليد بن المغيرة، والعاصي بن وائل، والأسود بن المطلب، وأمية وأبيّ ابنا خلف، وأبو جهل، وابنا الحجاج ونظراؤهم ممن لم يسلم، ووافى على الكفر تصديقاً للإخبار في قوله‏:‏ ‏{‏ولا أنتم عابدون ما أعبد‏}‏‏.‏ وللمفسرين في هذه الجمل أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنها للتوكيد‏.‏ فقوله‏:‏ ‏{‏ولا أنا عابد ما عبدتم‏}‏ توكيداً لقوله‏:‏ ‏{‏لا أعبد ما تعبدون‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ولا أنتم عابدون ما أعبد‏}‏ ثانياً تأكيد لقوله‏:‏ ‏{‏ولا أنتم عابدون ما أعبد‏}‏ أولاً‏.‏ والتوكيد في لسان العرب كثير جداً، وحكوا من ذلك نظماً ونثراً ما لا يكاد يحصر‏.‏ وفائدة هذا التوكيد قطع أطماع الكفار، وتحقيق الأخبار بموافاتهم على الكفر، وأنهم لا يسلمون أبداً‏.‏

والثاني‏:‏ أنه ليس للتوكيد، واختلفوا‏.‏ فقال الأخفش‏:‏ المعنى لا أعبد الساعة ما تعبدون، ولا أنتم عابدون السنة ما أعبد، ولا أنا عابد في المستقبل ما عبدتم، ولا أنتم عابدون في المستقبل ما أعبد، فزال التوكيد، إذ قد تقيدت كل جملة بزمان مغاير‏.‏

وقال أبو مسلم‏:‏ ما في الأوليين بمعنى الذي، والمقصود المعبود‏.‏ وما في الأخريين مصدرية، أي لا أعبد عبادتكم المبنية على الشك وترك النظر، ولا أنتم تعبدون مثل عبادتي المبنية على اليقين‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ لما كان قوله‏:‏ ‏{‏لا أعبد‏}‏ محتملاً أن يراد به الآن، ويبقى المستأنف منتظراً ما يكون فيه، جاء البيان بقوله‏:‏ ‏{‏ولا أنا عابد ما عبدتم‏}‏ أبداً وما حييت‏.‏ ثم جاء قوله‏:‏ ‏{‏ولا أنتم عابدون ما أعبد‏}‏ الثاني حتماً عليهم أنهم لا يؤمنون به أبداً، كالذي كشف الغيب‏.‏ فهذا كما قيل لنوح عليه السلام‏:‏ ‏{‏أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن‏}‏ أما أن هذا في معينين، وقوم نوح عموا بذلك، فهذا معنى الترديد الذي في السورة، وهو بارع الفصاحة، وليس بتكرار فقط، بل فيه ما ذكرته، انتهى‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ ‏{‏لا أعبد‏}‏، أريدت به العبادة فيما يستقبل، لأن لا لا تدخل إلا على مضارع في معنى الاستقبال، كما أن ما لا تدخل إلا على مضارع في معنى الحال، والمعنى‏:‏ لا أفعل في المستقبل ما تطلبونه مني من عبادة آلهتكم، ولا أنتم فاعلون فيه ما أطلب منكم من عبادة إلهي‏.‏

‏{‏ولا أنا عابد ما عبدتم‏}‏‏:‏ أي وما كنت قط عابداً فيما سلف ما عبدتم فيه، يعني‏:‏ لم تعهد مني عبادة صنم في الجاهلية، فكيف ترجى مني في الإسلام‏؟‏ ‏{‏ولا أنتم عابدون ما أعبد‏}‏‏:‏ أي وما عبدتم في وقت ما أنا على عبادته‏.‏

فإن قلت‏:‏ فهلا قيل ما عبدت كما قيل ما عبدتم‏؟‏ قلت‏:‏ لأنهم كانوا يعبدون الأصنام قبل البعث، وهو لم يكن يعبد الله تعالى في ذلك الوقت، انتهى‏.‏ أما حصره في قوله‏:‏ لأن لا لا تدخل، وفي قوله‏:‏ ما لا تدخل، فليس بصيح، بل ذلك غالب فيهما لا متحتم‏.‏ وقد ذكر النحاة دخول لا على المضارع يراد به الحال، ودخول ما على المضارع يراد به الاستقبال، وذلك مذكور في المبسوطات من كتب النحو؛ ولذلك لم يورد سيبويه ذلك بأداة الحصر، إنما قال‏:‏ وتكون لا نفياً لقوله يفعل ولم يقع الفعل‏.‏ وقال‏:‏ وأما ما فهي نفي لقوله هو يفعل إذا كان في حال الفعل، فذكر الغالب فيهما‏.‏

وأما قوله‏:‏ في قوله ‏{‏ولا أنا عابد ما عبدتم‏}‏‏:‏ أي وما كنت قط عابداً فيما سلف ما عبدتم فيه، فلا يستقيم، لأن عابداً اسم فاعل قد عمل فيما عبدتم، فلا يفسر بالماضي، إنما يفسر بالحال أو الاستقبال؛ وليس مذهبه في اسم الفاعل مذهب الكسائي وهشام من جواز إعماله ماضياً‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏{‏ولا أنتم عابدون ما أعبد‏}‏‏:‏ أي وما عبدتم في وقت ما أنا على عبادته، فعابدون قد أعمله فيما أعبد، فلا يفسر بالماضي‏.‏ وأما قوله، وهو لم يكن إلى آخره، فسوء أدب منه على منصب النبوة، وهو أيضاً غير صحيح، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يزل موحداً لله عز وجل منزهاً له عن كل ما لا يليق بجلاله، مجتنباً لأصنامهم بحج بيت الله، ويقف بمشاعر إبراهيم عليه الصلاة والسلام‏.‏ وهذه عبادة لله تعالى، وأي عبادة أعظم من توحيد الله تعالى ونبذ أصنامهم‏!‏ والمعرفة بالله تعالى من أعظم العبادات، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون‏}‏ قال المفسرون‏:‏ معناه ليعرفون‏.‏ فسمى الله تعالى المعرفة به عباده‏.‏

والذي أختاره في هذه الجمل أنه أولاً‏:‏ نفى عبادته في المستقبل، لأن لا الغالب أنها تنفي المستقبل، قيل‏:‏ ثم عطف عليه ‏{‏ولا أنتم عابدون ما أعبد‏}‏ نفياً للمستقبل على سبيل المقابلة؛ ثم قال‏:‏ ‏{‏ولا أنا عابد ما عبدتم‏}‏ نفياً للحال، لأن اسم الفاعل العامل الحقيقة فيه دلالته على الحال؛ ثم عطف عليه ‏{‏ولا أنتم عابدون ما أعبد‏}‏ نفياً للحال على سبيل المقابلة، فانتظم المعنى أنه صلى الله عليه وسلم لا يعبد ما يعبدون، لا حالاً ولا مستقبلاً، وهم كذلك، إذ قد حتم الله موافاتهم على الكفر‏.‏ ولما قال‏:‏ ‏{‏لا أعبد ما تعبدون‏}‏، فأطلق ما على الأصنام، قابل الكلام بما في قوله‏:‏ ‏{‏ما أعبد‏}‏، وإن كانت يراد بها الله تعالى، لأن المقابلة يسوغ فيها ما لا يسوغ مع الانفراد، وهذا على مذهب من يقول‏:‏ إن ما لا تقع على آحاد من يعلم‏.‏

أما من جوّز ذلك، وهو منسوب إلى سيبويه، فلا يحتاج إلى استعذار بالتقابل‏.‏ وقيل‏:‏ ما مصدرية في قوله‏:‏ ‏{‏ما أعبد‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ فيها جميعها‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ المراد الصفة، كأنه قيل‏:‏ لا أعبد الباطل، ولا تعبدون الحق‏.‏

‏{‏لكم دينكم ولي دين‏}‏‏:‏ أي لكم شرككم ولي توحيدي، وهذا غاية في التبرؤ‏.‏ ولما كان الأهم انتفاءه عليه الصلاة والسلام من دينهم، بدأ بالنفي في الجمل السابقة بالمنسوب إليه‏.‏ ولما تحقق النفي رجع إلى خطابهم في قوله‏:‏ ‏{‏لكم دينكم‏}‏ على سبيل المهادنة، وهي منسوخة بآية السيف‏.‏ وقرأ سلام‏:‏ ديني بياء وصلاً ووقفاً، وحذفها القراء السبعة، والله تعالى أعلم‏.‏

سورة النصر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ‏(‏1‏)‏ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا ‏(‏2‏)‏ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ‏(‏3‏)‏‏}‏

قال الزمخشري‏:‏ ‏{‏إذا‏}‏ منصوب بسبح، وهو لما يستقبل، والإعلام بذلك قبل كونه من أعلام النبوة، انتهى‏.‏ وكذا قال الحوفي، ولا يصح إعمال ‏{‏فسبح‏}‏ في ‏{‏إذا‏}‏ لأجل الفاء، لأن الفاء في جواب الشرط لا يتسلط الفعل الذي بعدها على اسم الشرط، فلا تعمل فيه، بل العامل في إذا الفعل الذي بعدها على الصحيح المنصور في علم العربية، وقد استدللنا على ذلك في شرح التسهيل وغيره، وإن كان المشهور غيره‏.‏ والنصر‏:‏ الإعانة والإظهار على العدو، والفتح‏:‏ فتح البلاد‏.‏ ومتعلق النصر والفتح محذوف، فالظاهر أنه نصر رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على أعدائهم، وفتح مكة وغيرها عليهم، كالطائف ومدن الحجاز وكثير من اليمن‏.‏ وقيل‏:‏ نصره صلى الله عليه وسلم على قريش وفتح مكة، وكان فتحها لعشر مضين من رمضان، سنة ثمان، ومعه عليه الصلاة والسلام عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏يدخلون‏}‏ مبنياً للفاعل؛ وابن كثير في رواية‏:‏ مبنياً للمفعول‏.‏ ‏{‏في دين الله‏}‏‏:‏ في ملة الإسلام الذي لا دين له يضاف غيرها‏.‏ ‏{‏أفواجاً‏}‏ أي جماعات كثيرة، كانت تدخل فيه القبيلة بأسرها بعدما كانوا يدخلون فيه واحداً بعد واحد، واثنين اثنين‏.‏

قال الحسن‏:‏ لما فتح عليه الصلاة والسلام مكة، أقبلت العرب بعضها على بعض فقالوا‏:‏ أما الظفر بأهل الحرم فليس به يدان، وقد كان الله تعالى أجارهم من أصحاب الفيل‏.‏ وقال أبو عمر بن عبد البر‏:‏ لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي العرب رجل كافر، بل دخل الكل في الإسلام بعد حنين‏.‏ منهم من قدم، ومنهم من قدّم وافده‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ والمراد، والله أعلم، العرب عبدة الأوثان‏.‏ وأما نصارى بني ثعلب فما أراهم أسلموا قط في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن أعطوا الجزية‏.‏ وقال مقاتل وعكرمة‏:‏ المراد بالناس أهل اليمن، وفد منهم سبعمائة رجل‏.‏ وقال الجمهور‏:‏ وفود العرب، وكان دخولهم بين فتح مكة وموته صلى الله عليه وسلم‏.‏ و‏{‏أفواجاً‏}‏‏:‏ جمع فوج‏.‏ قال الحوفي‏:‏ وقياس جمعه أفوج، ولكن استثقلت الضمة على الواو فعدّل إلى أفواج، كأنه يعني أنه كان ينبغي أن يكون معتل العين كالصحيح‏.‏ فكما أن قياس فعل صحيحها أن يجمع على أفعل لا على أفعال، فكذلك هذا؛ والأمر في هذا المعتل بالعكس‏.‏ القياس فيه أفعال، كحوض وأحواض، وشذ فيه أفعل، كثوب وأثوب، وهو حال‏.‏ ويدخلون حال أو مفعول ثان إن كان ‏{‏أرأيت‏}‏ بمعنى علمت المتعدية لاثنين‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ إما على الحال على أن أرأيت بمعنى أبصرت أو عرفت، انتهى‏.‏ ولا نعلم رأيت جاءت بمعنى عرفت، فنحتاج في ذلك إلى استثبات‏.‏

‏{‏فسبح بحمد ربك‏}‏‏:‏ أي ملتبساً بحمده على هذه النعم التي خولكها، من نصرك على الأعداء وفتحك البلاد وإسلام الناس؛ وأي نعمة أعظم من هذه، إذ كل حسنة يعملها المسلمون فهي في ميزانه‏.‏

وعن عائشة‏:‏ كان صلى الله عليه وسلم يكثر قبل موته أن يقول‏:‏ ‏"‏ سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك ‏"‏ قال الزمخشري‏:‏ والأمر بالاستغفار مع التسبيح تكميل للأمر بما هو قوام أمر الدين من الجمع بين الطاعة والاحتراس من المعصية، وليكون أمره بذلك مع عصمته لطفاً لأمته، ولأن الاستغفار من التواضع وهضم النفس، فهو عبادة في نفسه‏.‏

وعن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إني لأستغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة ‏"‏، انتهى‏.‏ وقد علم هو صلى الله عليه وسلم من هذه السورة دنو أجله، ‏"‏ وحين قرأها عليه الصلاة والسلام استبشر الصحابة وبكى العباس، فقال‏:‏ «وما يبكيك يا عم‏؟‏» قال‏:‏ نعيت إليك نفسك، فقال‏:‏ «إنها لكما تقول»، فعاش بعدها سنتين ‏"‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ تَوبَا‏}‏‏:‏ فيه ترجئة عظيمة للمستغفرين‏.‏

سورة المسد

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ‏(‏1‏)‏ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ‏(‏2‏)‏ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ ‏(‏3‏)‏ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ‏(‏4‏)‏ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ‏(‏5‏)‏‏}‏

وتقدم الكلام على التباب في سورة غافر، وهنا قال ابن عباس‏:‏ خابت، وقتادة‏:‏ خسرت، وابن جبير‏:‏ هلكت، وعطاء‏:‏ ضلت، ويمان بن رياب‏:‏ صفرت من كل خير، وهذه الأقوال متقاربة في المعنى‏.‏ وقالوا فيما حكى إشابة‏:‏ أم تابة‏:‏ أي هالكة من الهرم والتعجيز‏.‏ وإسناد الهلاك إلى اليدين، لأن العمل أكثر ما يكون بهما، وهو في الحقيقة للنفس، كقوله‏:‏ ‏{‏ذلك بما قدمت يداك‏}‏ وقيل‏:‏ أخذ بيديه حجراً ليرمي به الرسول صلى الله عليه وسلم، فأسند التب إليهما‏.‏ والظاهر أن التب دعاء، وتب‏:‏ إخبار بحصول ذلك، كما قال الشاعر‏:‏

جزاني جزاه الله شرّ جزائه *** جزاء الكلاب العاويات وقد فعل

ويدل عليه قراءة عبد الله‏:‏ وقد تب‏.‏ روي أنه لما نزل‏:‏ ‏{‏وأنذر عشيرتك الأقربين‏}‏ قال‏:‏ ‏"‏ يا صفية بنت عبد المطلب، يا فاطمة بنت محمد، لا أغني لكما من الله شيئاً، سلاني من مالي ما شئتما ‏"‏ ثم صعد الصفا، فنادى بطون قريش‏:‏ ‏"‏ يا بني فلان يا بني فلان ‏"‏ وروي أنه صاح بأعلى صوته‏:‏ ‏"‏ «يا صباحاه»‏.‏ فاجتمعوا إليه من كل وجه، فقال لهم‏:‏ «أرأيتم لو قلت لكم إني أنذركم خيلاً بسفح هذا الجبل، أكنتم مصدقي‏؟‏» قالوا‏:‏ نعم، قال‏:‏ «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد»‏.‏ فقال أبو لهب‏:‏ تباً لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا‏؟‏ فافترقوا عنه، ونزلت هذه السورة ‏"‏ وأبو لهب اسمه عبد العزى، ابن عم المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقرأ ابن محيصن وابن كثير‏:‏ أبي لهب بسكون الهاء، وفتحها باقي السبعة ولم يختلفوا في ذات لهب، لأنها فاصلة، والسكون يزيلها على حسن الفاصلة‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ وهو من تغيير الأعلام، كقولهم‏:‏ شمس مالك بالضم‏.‏ انتهى، يعني‏:‏ سكون الهاء في لهب وضم الشين في شمس، ويعني في قول الشاعر‏:‏

وإني لمهد من ثنائي فقاصد *** به لابن عمي الصدق شمس بن مالك

فأما في لهب، فالمشهور في كنيته فتح الهاء، وأما شمس بن مالك، فلا يتعين أن يكون من تغيير الأعلام، بل يمكن أن يكون مسمى بشمس المنقول من شمس الجمع، كما جاء أذناب خيل شمس‏.‏ قيل‏:‏ وكني بأبي لهب لحسنه وإشراق وجهه، ولم يذكره تعالى باسمه لأن اسمه عبد العزى، فعدل عنه إلى الكنية، أو لأن الكنية كانت أغلب عليه من الاسم؛ أو لأن مآله إلى النار، فوافقت حالته كنيته، كما يقال للشرير‏:‏ أبو الشر، وللخير أبو الخير؛ أو لأن الاسم أشرف من الكنية، فعدل إلى الأنقص؛ ولذلك ذكر الله تعالى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بأسمائهم ولم يكنّ أحداً منهم‏.‏

والظاهر أن ما في ‏{‏ما أغنى عنه ماله‏}‏ نفي، أي لم يغن عنه ماله الموروث عن آبائه، وما كسب هو بنفسه أو ماشيته، وما كسب من نسلها ومنافعها، أو ما كسب من أرباح ماله الذي يتجر به‏.‏

ويجوز أن تكون ما استفهاماً في موضع نصب، أي‏:‏ أيّ شيء يغني عنه ماله على وجه التقرير والإنكار‏؟‏ والمعنى‏:‏ أين الغني الذي لماله ولكسبه‏؟‏ والظاهر أن ما في قوله‏:‏ ‏{‏وما كسب‏}‏ موصولة، وأجيز أن تكون مصدرية‏.‏ وإذا كانت ما في ‏{‏ما أغنى‏}‏ استفهاماً، فيجوز أن تكون ما في ‏{‏وما كسب‏}‏ استفهاماً أيضاً، أي‏:‏ وأي شيء كسب‏؟‏ أي لم يكسب شيئاً‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وما كسب‏}‏ ولده‏.‏

وفي الحديث‏:‏ «ولد الرجل من كسبه» وعن الضحاك‏:‏ ‏{‏وما كسب‏}‏ هو عمله الخبيث في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏ وعن قتادة‏:‏ وعمله الذي ظن أنه منه على شيء‏.‏ وروي عنه أنه كان يقول‏:‏ إن كان ما يقول ابن أخي حقاً، فأنا أفتدي منه نفسي بمالي وولدي‏.‏ وقرأ عبد الله‏:‏ وما اكتسب بتاء الافتعال‏.‏ وقرأ أبو حيوة وابن مقسم وعباس في اختياره، وهو أيضاً سيصلى بضم الياء وفتح الصاد وشد اللام، ومريئته؛ وعنه أيضاً‏:‏ ومريته على التصغير فيهما بالهمز وبإبدالها ياء وإدغام ياء التصغير فيها‏.‏ وقرأ أيضاً‏:‏ حمالة للحطب، بالتنوين في حمالة، وبلام الجر في الحطب‏.‏ وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق‏:‏ سيصلى بضم الياء وسكون الصاد؛ وأبو قلابة‏:‏ حاملة الحطب على وزن فاعلة مضافاً، واختلس حركة الهاء في وامرأته أبو عمرو في رواية؛ والحسن وزيد بن علي والأعرج وأبو حيوة وابن أبي عبلة وابن محيصن وعاصم‏:‏ حمالة بالنصب‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏سيصلى‏}‏ بفتح الياء وسكون الصاد، ‏{‏وامرأته‏}‏ على التكبير، ‏{‏حمالة‏}‏ على وزن فعالة للمبالغة مضافاً إلى الحطب مرفوعاً، والسين للاستقبال وإن تراخى الزمان، وهو وعيد كائن إنجازه لا محالة‏.‏ وارتفع ‏{‏وامرأته‏}‏ عطفاً على الضمير المستكن في ‏{‏سيصلى‏}‏، وحسنه وجود الفصل بالمفعول وصفته، ‏{‏وحمالة‏}‏ في قراءة الجمهور خبر مبتدأ محذوف، أو صفة لامرأته، لأنه مثال ماض فيعرف بالإضافة، وفعال أحد الأمثلة الستة وحكمها كاسم الفاعل‏.‏ وفي قراءة النصب، انتصب على الذم‏.‏ وأجازوا في قراءة الرفع أن يكون ‏{‏وامرأته‏}‏ مبتدأ، وحمالة، واسمها أم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان، وكانت عوراء‏.‏ والظاهر أنها كانت تحمل الحطب، أي ما فيه شوك، لتؤذي بإلقائه في طريق الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لتعقرهم، فذمت بذلك وسميت حمالة الحطب، قاله ابن عباس‏.‏ فحمالة معرفة، فإن كان صار لقباً لها جاز فيه حالة الرفع أن يكون عطف بيان، وأن يكون بدلاً‏.‏ قيل‏:‏ وكانت تحمل حزمة من الشوك والحسك والسعدان فتنشرها بالليل في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال ابن عباس أيضاً ومجاهد وقتادة والسدي‏:‏ كانت تمشي بالنميمة، ويقال للمشاء بها‏:‏ يحمل الحطب بين الناس، أي يوقد بينهم النائرة ويورث الشر‏.‏

قال الشاعر‏:‏

من البيض لم يصطد على ظهر لامه *** ولم تمش بين الحي بالحطب الرطب

جعله رطباً ليدل على التدخين الذي هو زيادة في الشر‏.‏ وقال الراجز‏:‏

إن بني الأرزم حمالو الحطب *** هم الوشاة في الرضا وفي الغضب

وقال ابن جبير‏:‏ حمالة الخطايا والذنوب، من قولهم‏:‏ يحطب على ظهره‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ الحطب جمع حاطب، كحارس وحرس، أي يحمل الجناة على الجنايات، والظاهر أن الحبل من مسد‏.‏ وقال عروة بن الزبير ومجاهد وسفيان‏:‏ استعارة، والمراد سلسلة من حديد في جهنم‏.‏ وقال قتادة‏:‏ قلادة من ودع‏.‏ وقال ابن المسيب‏:‏ قلادة فاخرة من جوهر، فقالت‏:‏ واللات والعزى لأنفقنها على عداوة محمد‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وإنما عبر عن قلادتها بحبل من مسد على جهة التفاؤل لها، وذكر تبرجها في هذا السعي الخبيث، انتهى‏.‏ وقال الحسن‏:‏ إنما كانت خرزاً‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ والمعنى في جيدها حبل مما مسد من الحبال، وأنها تحمل الحزمة من الشوك وتربطها في جيدها، كما يفعل الحطابون تحسيساً لحالها وتحقيراً لها بصورة بعض الحطابات من المواهن لتمتعض من ذلك ويمتعض بعلها وهما في بيت العز والشرف وفي منصب الثروة والجدة‏.‏ ولقد عير بعض الناس الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب بحمالة الحطب، فقال‏:‏

ماذا أردت إلى شتمي ومنقصتي *** أم ما تعير من حمالة الحطب

غرساء شاذخة في المجد سامية *** كانت سليلة شيخ ثاقب الحسب

ويحتمل أن يكون المعنى‏:‏ إن حالها يكون في نار جهنم على الصورة التي كانت عليها حين كانت تحمل حزمة الشوك، فلا يزال على ظهرها حزمة من حطب النار من شجر الزقوم أو الضريع، وفي جيدها حبل مما مسد من سلاسل النار، كما يعذب كل مجرم بما يجانس حاله في جرمه، انتهى‏.‏

ولما سمعت أم جميل هذه السورة أتت أبا بكر، وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وبيدها فهر، فقالت‏:‏ بلغني أن صاحبك هجاني، ولأفعلنّ وأفعلن؛ وأعمى الله تعالى بصرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فروي أن أبا بكر، رضي الله تعالى عنه، قال لها‏:‏ هل تري معي أحداً‏؟‏ فقالت‏:‏ أتهزأ بي‏؟‏ لا أرى غيرك‏.‏ وإن كان شاعراً فأنا مثله أقول‏:‏

مذمماً أبينا *** ودينه قلينا

وأمره عصينا *** فسكت أبو بكر ومضت هي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لقد حجبتني عنها ملائكة فما رأتني وكفى الله شرها» وذكر أنها ماتت مخنوقة بحبلها، وأبو لهب رماه الله تعالى بالعدسة بعد وقعة بدر بسبع ليال‏.‏

سورة الإخلاص

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ‏(‏1‏)‏ اللَّهُ الصَّمَدُ ‏(‏2‏)‏ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ‏(‏3‏)‏ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ‏(‏4‏)‏‏}‏

عن ابن عباس، أن اليهود قالوا‏:‏ يا محمد صف لنا ربك وانسبه، فنزلت‏.‏ وعن أبي العالية، قال قادة الأحزاب‏:‏ انسب لنا ربك، فنزلت‏.‏ فإن صح هذالسبب، كان هو ضميراً عائداً على الرب، أي ‏{‏قل هو الله‏}‏ أي ربي الله، ويكون مبتدأ وخبراً، وأحد خبر ثان‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ وأحد يدل من قوله‏:‏ ‏{‏الله‏}‏، أو على هو أحد، انتهى‏.‏ وإن لم يصح السبب، فهو ضمير الأمر، والشان مبتدأ، والجملة بعده مبتدأ وخبر في موضع خبر هو، وأحد بمعنى واحد، أي فرد من جميع جهات الوحدانية، أي في ذاته وصفاته لا يتجزأ‏.‏ وهمزة أحد هذا بدل من واو، وإبدال الهمزة مفتوحة من الواو قليل، من ذلك امرأة إناة، يريدون وناة، لأنه من الوني وهو الفتور، كما أن أحداً من الوحدة‏.‏ وقال ثعلب‏:‏ بين واحد وأحد فرق، الواحد يدخله العدد والجمع والاثنان، والأحد لا يدخله‏.‏ يقال‏:‏ الله أحد، ولا يقال‏:‏ زيد أحد، لأن الله خصوصية له الأحد، وزيد تكون منه حالات، انتهى‏.‏ وما ذكر من أن أحداً لا يدخله ما ذكر منقوض بالعدد‏.‏ وقرأ أبان بن عثمان، وزيد بن علي، ونصر بن عاصم، وابن سيرين، والحسن، وابن أبي إسحاق، وأبو السمال، وأبو عمرو في رواية يونس، ومحبوب، والأصمعي، واللؤلؤي، وعبيد، وهارون عنه‏:‏ ‏{‏أحد *** الله‏}‏ بحذف التنوين لالتقائه مع لام التعريف وهو موجود في كلام العرب وأكثر ما يوجد في الشعر نحو قوله‏:‏

ولا ذاكراً الله إلا قليلاً *** ونحو قوله‏:‏

عمرو الذي هشم الثريد لقومه *** ‏{‏الله الصمد‏}‏‏:‏ مبتدأ وخبر، والأفصح أن تكون هذه جملاً مستقلة بالأخبار على سبيل الاستئناف، كما تقول‏:‏ زيد العالم زيد الشجاع‏.‏ وقيل‏:‏ الصمد صفة، والخبر في الجملة بعده، وتقدم شرح الصمد في المفردات‏.‏ وقال الشعبي، ويمان بن رياب‏:‏ هو الذي لا يأكل ولا يشرب‏.‏ وقال أبيّ بن كعب‏:‏ يفسره ما بعده، وهو قوله‏:‏ ‏{‏لم يلد ولم يولد‏}‏‏.‏ وقال الحسن‏:‏ الصمد‏:‏ المصمت الذي لا جوف له، ومنه قوله‏:‏

شهاب حروب لا تزال جياده *** عوابس يعلكن الشكيم المصمدا

وفي كتاب التحرير أقوال غير هذه لا تساعد عليها اللغة‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ لا خلاف بين أهل اللغة أن الصمد هو السيد الذي ليس فوقه أحد، الذي يصمد إليه الناس في أمورهم وحوائجهم‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ ‏{‏لم يلد‏}‏، لأنه لا يجانس حتى تكون له من جنسه صاحبة فيتوالدا، ودل على هذا المعنى بقوله‏:‏ ‏{‏أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة‏}‏ ‏{‏ولم يولد‏}‏‏:‏ لأن كل مولود محدث وجسم، وهو قديم لا أول لوجوده، وليس بجسم ولم يكافئه أحد‏.‏ يقال له كفو، بضم الكاف وكسرها وفتحها مع سكون الفاء، وبضم الكاف مع ضم الفاء‏.‏

وقرأ حمزة وحفص‏:‏ بضم الكاف وإسكان الفاء، وهمز حمزة، وأبدلها حفص واواً‏.‏ وباقي السبعة‏:‏ بضمهما والهمز، وسهل الهمزة الأعرج وأبو جعفر وشيبة ونافع، وفي رواية عن نافع أيضاً كفا من غير همز، نقل حركة الهمزة إلى الفاء وحذف الهمزة‏.‏ وقرأ سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس‏:‏ كفاء بكسر الكاف وفتح الفاء والمد، كما قال النابغة‏:‏

لا تعذقني بركن لا كفاء له *** الأعلم لا كفاء له‏:‏ لا مثيل له‏.‏ وقال مكي سيبويه‏:‏ يختار أن يكون الظرف خبراً إذا قدمه، وقد خطأه المبرد بهذه الآية، لأنه قدم الظرف ولم يجعله خبراً، والجواب أن سيبويه لم يمنع إلغاء الظرف إذا تقدم، إنما أجاز أن يكون خبراً وأن لا يكون خبراً‏.‏ ويجوز أن يكون حالاً من النكرة وهي أحد‏.‏ لما تقدم نعتها عليها نصب على الحال، فيكون له الخبر على مذهب سيبويه واختياره، ولا يكون للمبرد حجة على هذا القول، انتهى‏.‏ وخرجه ابن عطية أيضاً على الحال‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ فإن قلت‏:‏ الكلام العربي الفصيح أن يؤخر الظرف الذي هو لغو غير مستقر ولا يقدم، وقد نص سيبويه على ذلك في كتابه، فما باله مقدماً في أفصح الكلام وأعربه‏؟‏ قلت‏:‏ هذا الكلام إنما سيق لنفي المكافأة عن ذات الباري سبحانه وتعالى، وهذا المعنى مصبه ومركزه هو هذا الظرف، فكان لذلك أهم شيء وأعناه وأحقه بالتقديم وأحراه، انتهى‏.‏

وهذه الجملة ليست من هذا الباب، وذلك أن قوله‏:‏ ‏{‏ولم يكن له كفواً أحد‏}‏ ليس الجار والمجرور فيه تاماً، إنما هو ناقص لا يصلح أن يكون خبراً لكان، بل هو متعلق بكفواً وقدم عليه‏.‏ فالتقدير‏:‏ ولم يكن أحد كفواً له، أي مكافئه، فهو في معنى المفعول متعلق بكفواً‏.‏ وتقدم على كفواً للاهتمام به، إذ فيه ضمير الباري تعالى‏.‏ وتوسط الخبر، وإن كان الأصل التأخر، لأن تأخر الاسم هو فاصلة فحسن ذلك‏.‏ وعلى هذا الذي قررناه يبطل إعراب مكي وغيره أن له الخبر وكفواً حال من أحد، لأنه ظرف ناقص لا يصلح أن يكون خبراً، وبذلك يبطل سؤال الزمخشري وجوابه‏.‏

وسيبويه إنما تكلم في هذا الظرف الذي يصلح أن يكون خبراً، ويصلح أن يكون غير خبر‏.‏ قال سيبويه إنما تكلم في هذا الظرف الذي يصلح أن يكون خبراً، ويصلح أن يكون غير خبر‏.‏ قال سيبويه‏:‏ وتقول‏:‏ ما كان فيها أحد خير منك، وما كان أحد مثلك فيها، وليس أحد فيها خير منك، إذا جعلت فيها مستقراً ولم تجعله على قولك‏:‏ فيها زيد قائم‏.‏ أجريت الصفة على الاسم، فإن جعلته على‏:‏ فيها زيد قائم، نصبت فتقول‏:‏ ما كان فيها أحد خيراً منك، وما كان أحد خيراً منك فيها، إلا أنك إذا أردت الإلغاء، فكلما أخرت الملغى كان أحسن‏.‏

وإذا أردت أن يكون مستقراً، فكلما قدمته كان أحسن، والتقديم والتأخير والإلغاء والاستقرار عربي جيد كثير‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولم يكن له كفواً أحد‏}‏‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

ما دام فيهن فصيل حياً *** انتهى‏.‏ وما نقلناه ملخصاً‏.‏ وهو بألفاظ سيبويه، فأنت ترى كلامه وتمثيله بالظرف الذي يصلح أن يكون خبراً‏.‏ ومعنى قوله‏:‏ مستقراً، أي خبراً للمبتدأ ولكان‏.‏ فإن قلت‏:‏ فقد مثل بالآية الكريمة‏.‏ قلت‏:‏ هذا الذي أوقع مكياً والزمخشري وغيرهما فيما وقعوا فيه، وإنما أراد سيبويه أن الظرف التام هو في قوله‏:‏

ما دام فيهن فصيل حياً *** أجرى فضلة لا خبراً‏.‏ كما أن له في الآية أجرى فضلة، فجعل الظرف القابل أن يكون خبراً كالظرف الناقص في كونه لم يستعمل خبراً، ولا يشك من له ذهن صحيح أنه لا ينعقد كلام من قوله‏:‏ ولم يكن له أحد، بل لو تأخر كفواً وارتفع على الصفة وجعل له خبراً، لم ينعقد منه كلام، بل أنت ترى أن النفي لم يتسلط إلا على الخبر الذي هو كفو، وله متعلق به، والمعنى‏:‏ ولم يكن له أحد مكافئه‏.‏ وقد جاء في فضل هذه السورة أحاديث كثيرة، ومنها أنها تعدل ثلث القرآن، وقد تكلم العلماء على ذلك، وليس هذا موضعه، والله الموفق‏.‏

سورة الفلق

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ‏(‏1‏)‏ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ ‏(‏2‏)‏ وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ‏(‏3‏)‏ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ ‏(‏4‏)‏ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

والفلق‏:‏ الصبح، قاله ابن عباس وجابر بن عبد الله ومجاهد وقتادة وابن جبير والقرطبي وابن زيد، وفي المثل‏:‏ هو أبين من فلق الصبح ومن فرق الصبح، وقال الشاعر‏:‏

يا ليلة لم أنمها بت مرتقباً *** أرعى النجوم إلى أن قدّر الفلق

وقال الشاعر يصف الثور الوحشي‏:‏

حتى إذا ما انجلى عن وجهه فلق *** هاديه في أخريات الليل منتصب

وقيل‏:‏ الفلق‏:‏ كلما يفلقه الله تعالى، كالأرض والنبات والجبال عن العيون، والسحاب عن المطر، والأرحام عن الأولاد، والحب والنوى وغير ذلك‏.‏ وقال ابن عباس أيضاً وجماعة من الصحابة والتابعين‏:‏ الفلق‏:‏ جب في جهنم، ورواه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا‏:‏ لما اطمأن من الأرض الفلق، وجمعه فلقان‏.‏ وقيل‏:‏ واد في جهنم‏.‏ وقال بعض الصحابة‏:‏ بيت في جهنم، إذا فتح صاح جميع أهل النار من شدّة حره‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏من شر ما خلق‏}‏، بإضافة شر إلى ما، وما عام يدخل فيه جميع من يوجد منه الشر من حيوان مكلف وغير مكلف وجماد، كالإحراق بالنار، والإغراق بالبحر، والقتل بالسم‏.‏ وقرأ عمرو بن فايد‏:‏ من شر بالتنوين‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ وقرأ عمرو بن عبيد، وبعض المعتزلة القائلين بأن الله تعالى لم يخلق الشر‏:‏ من شر بالتنوين، ما خلق على النفي، وهي قراءة مردودة مبنية على مذهب باطل، الله خالق كل شيء، ولهذه القراءة وجه غير النفي، فلا ينبغي أن ترد، وهو أن يكون ‏{‏ما خلق‏}‏ بدلاً من ‏{‏شر‏}‏ على تقدير محذوف، أي من شرّ شر ما خلق، فحذف لدلالة شر الأول عليه، أطلق أولاً ثم عمّ ثانياً‏.‏ والغاسق‏:‏ الليل، ووقب‏:‏ أظلم ودخل على الناس، قاله ابن عباس والحسن ومجاهد، وزمّكه الزمخشري على عادته فقال‏:‏ والغاسق‏:‏ الليل إذا اعتكر ظلامه‏.‏ من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلى غسق الليل‏}‏ ومنه‏:‏ غسقت العين‏:‏ امتلأت دمعاً، وغسقت الجراحة‏:‏ امتلأت دماً، ووقوبه‏:‏ دخول ظلامه في كل شيء، انتهى‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ هو الليل لأنه أبرد من النهار، والغاسق‏:‏ البارد، استعيذ من شره لأنه فيه تنبث الشياطين والهوام والحشرات وأهل الفتك‏.‏ قال الشاعر‏:‏

يا طيف هند لقد أبقيت لي أرقاً *** إذ جئتنا طارقاً والليل قد غسقا

وقال محمد بن كعب‏:‏ النهار دخل في الليل‏.‏ وقال ابن شهاب‏:‏ المراد بالغاسق‏:‏ الشمس إذا غربت‏.‏ وقال القتبي وغيره‏:‏ هو القمر إذا دخل في ساهوره فخسف‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «نظر صلى الله عليه وسلم إلى القمر فقال‏:‏ يا عائشة، نعوذ بالله من هذا، فإنه الفاسق إذا وقب» وعنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الغاسق النجم» وقال ابن زيد عن العرب‏:‏ الغاسق‏:‏ الثريا إذا سقطت، وكانت الأسقام والطاعون تهيج عند ذلك‏.‏

وقيل‏:‏ الحية إذا لدغت، والغاسق سم نابها لأنه يسيل منه‏.‏ والنفاثات‏:‏ النساء، أو النفوس، أو الجماعات السواحر، يعقدن عقداً في خيوط وينفثن عليها ويرقين‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏النفاثات‏}‏؛ والحسن‏:‏ بضم النون، وابن عمر والحسن أيضاً وعبد الله بن القاسم ويعقوب في رواية النافثات؛ والحسن أيضاً وأبو الربيع‏:‏ النفثات بغير ألف، نحو الخدرات‏.‏ والاستعاذة من شرهن هو ما يصيب الله تعالى به من الشر عند فعلهن ذلك‏.‏

وسبب نزول هاتين المعوذتين ينفي ما تأوله الزمخشري من قوله‏:‏ ويجوز أن يراد به النساء ذات الكيادات من قوله‏:‏ ‏{‏إن كيدكن عظيم‏}‏ تشبيهاً لكيدهن بالسحر والنفث في العقد، أو اللاتي يفتن الرجال بتعرضهنّ لهم، وعرضهنّ محاسنهن، كأنهن يسحرنهم بذلك، انتهى‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ وهذا النفث هو على عقد تعقد في خيوط ونحوها على اسم المسحور فيؤذي بذلك، وهذا الشأن في زماننا موجود شائع في صحراء المغرب‏.‏ وحدثني ثقة أنه رأى عند بعضهم خيطاً أحمر قد عقدت فيه عقد على فصلان، فمنعت من رضاع أمهاتها بذلك، فكان إذا حل عقدة جرى ذلك الفصيل إلى أمه في الحين فرضع، انتهى‏.‏

وقيل‏:‏ الغاسق والحاسد بالطرف، لأنه إذا لم يدخل الليل لا يكون منسوباً إليه، وكذا كل ما فسر به الغاسق‏.‏ وكذلك الحاسد، لا يؤثر حسده إذا أظهره بأن يحتال للمحسود فيما يؤذيه‏.‏ أما إذا لم يظهر الحسد، فإنما يتأذى به هو لا المحسود، لاغتمامه بنعمة غيره‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ ويجوز أن يراد بشر الحاسد إثمه وسماجة حاله في وقت حسده وإظهار أثره، انتهى‏.‏ وعم أولاً فقال‏:‏ ‏{‏من شر ما خلق‏}‏، ثم خص هذه لخفاء شرها، إذ يجيء من حيث لا يعلم، وقالوا‏:‏ شر العداة المراجي بكيدك من حيث لا تشعر، ونكر غاسق وحاسد وعرف النفاثات، لأن كل نفاثة شريرة، وكل غاسق لا يكون فيه الشر إنما يكون في بعض دون بعض، وكذلك كل حاسد لا يضر‏.‏ ورب حسد محمود، وهو الحسد في الخيرات، ومنه‏:‏ لا حسد إلا في اثنتين، ومنه قول أبي تمام‏:‏

وما حاسد في المكرمات بحاسد *** وقال آخر‏:‏

إن الغلا حسن في مثلها الحسد *** وقول المنظور إليه للحاسد، إذا نظر الخمس على عينيك يعني به هذه السورة، لأنها خمس آيات، وعين الحاسد في الغالب واقعة نعوذ بالله من شرها‏.‏

سورة الناس

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 6‏]‏

‏{‏قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ‏(‏1‏)‏ مَلِكِ النَّاسِ ‏(‏2‏)‏ إِلَهِ النَّاسِ ‏(‏3‏)‏ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ ‏(‏4‏)‏ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ‏(‏5‏)‏ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ‏(‏6‏)‏‏}‏

أضيف الرب إلى الناس، لأن الاستعاذة من شر الموسوس في صدورهم، استعاذوا بربهم مالكهم وإلههم، كما يستعيذ العبد بمولاه إذا دهمه أمر‏.‏ والظاهر أن ‏{‏ملك الناس إله الناس‏}‏ صفتان‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ هما عطفا بيان، كقولك‏:‏ سيرة أبي حفص عمر الفاروق بين بملك الناس، ثم زيد بياناً بإله الناس لأنه قد يقال لغيره‏:‏ رب الناس، كقوله‏:‏ ‏{‏اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله‏}‏ وقد يقال‏:‏ ملك الناس، وأما إله الناس فخاص لا شركة فيه، فجعل غاية للبيان، انتهى‏.‏ وعطف البيان المشهور أنه يكون بالجوامد، وظاهر قوله أنهما عطفا بيان لواحد، ولا أنقل عن النحاة شيئاً في عطف البيان، هل يجوز أن يتكرر لمعطوف عليه واحد أم لا يجوز‏؟‏‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ فإن قلت‏:‏ فهلا اكتفى بإظهار المضاف إليه الذي هو الناس مرة واحدة‏؟‏ قلت‏:‏ لأن عطف البيان للبيان، فكان مظنة للإظهار دون الإضمار، انتهى‏.‏ والوسواس، قالوا‏:‏ اسم من أسماء الشيطان‏؟‏ والوسواس أيضاً‏:‏ ما يوسوس به شهوات النفس، وهو الهوى المنهي عنه‏.‏ والخناس‏:‏ الراجع على عقبه، المستتر أحياناً، وذلك في الشيطان متمكن إذا ذكر العبد الله تعالى تأخر‏.‏ وأما الشهوات فتخنس بالإيمان وبلمة الملك وبالحياء، فهذان المعنيان يندرجان في الوسواس، ويكون معنى ‏{‏من الجنة والناس‏}‏‏:‏ من الشياطين ونفوس الناس، أو يكون الوسواس أريد به الشيطان، والمغري‏:‏ المزين من قرناء السوء، فيكون ‏{‏من الجنة والناس‏}‏، تبييناً لذلك الوسواس‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً‏}‏ وقال قتادة‏:‏ إن من الإنس شياطين، ومن الجن شياطين، فنعوذ بالله منهم‏.‏ وقال أبو ذر لرجل‏:‏ هل تعوذت من شياطين الإنس‏؟‏

وقال الزمخشري‏:‏ ‏{‏الوسواس‏}‏ اسم بمعنى الوسوسة، كالزلزال بمعنى الزلزلة؛ وأما المصدر فوسواس بالكسر كزلزال، والمراد به الشيطان، سمي بالمصدر كأنه وسوسة في نفسه، لأنها صنعته وشغله الذي هو عاكف عليه؛ أو أريد ذو الوسواس‏.‏ وقد تكلمنا معه في دعواه أن الزلزال بالفتح اسم وبالكسر مصدر في ‏{‏إذا زلزلت‏}‏ ويجوز في الذي الجر على الصفة، والرفع والنصب على الشتم، ومن في ‏{‏من الجنة والناس‏}‏ للتبعيض، أي كائناً من الجنة والناس، فهي في موضع الحال أي ذلك الموسوس هو بعض الجنة وبعض الناس‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ويجوز أن يكون من متعلقاً بيوسوس، ومعناه ابتداء الغاية، أي يوسوس في صدورهم من جهة الجنة ومن جهة الناس، انتهى‏.‏

ولما كانت مضرة الدين، وهي آفة الوسوسة، أعظم من مضرة الدنيا وإن عظمت، جاء البناء في الاستعاذة منها بصفات ثلاث‏:‏ الرب والملك والإله، وإن اتحد المطلوب، وفي الاستعاذة من ثلاث‏:‏ الغاسق والنفاثات والحاسد بصفة واحدة وهي الرب، وإن تكثر الذي يستعاذ منه‏.‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا آوى إلى فراشه جمع كفيه ونفث فيهما وقرأ‏:‏ قل هو الله أحد والمعوذتين، ثم مسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ برأسه ووجهه وما أقبل من جسده يفعل ذلك ثلاثاً، صلى الله عليه وسلم وشرّف ومجد وكرّم، وعلى آله وصحبه ذوي الكرم وسلم تسليماً كثيراً‏.‏